سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


يقول الحق جل جلاله: في شأن المنافقين: {ألم يأتهم نبأُ}: خبر {الذين من قبلِهمْ}، كيف دمرهم الله وأهلكهم، حيث خالفوا رسلهم، {قوم نوح}؛ أغرقهم بالطوفان، {و} وقوم {عاد}؛ أهلكهم بالريح، {وثمودَ}؛ أهلكهم بالصيحة، {وقومِ إبراهيم}؛ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه به، أرسل عليهم سحابة من البعوض فخرطتهم، ودخلت بعوضة في دماغه فأكلت دماغه، حتى هلك، {وأصحاب مَدينَ}، وهم قوم شعيب، أُهلكوا بالنار يوم الظلة، {والمؤتفكات}؛ مدائن قوم لوط، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارات من سجيل. {أتتهم رسلُهم} أي: كل واحدة منهن أتاها رسول {بالبيات}؛ بالمعجزات الواضحة، {فما كان الله ليظلمهم} أي: لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس، كالعقاب بلا جرم. {ولكن كانوا أنفسهم يَظلمُون}؛ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
الإشارة: ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يتحرى مواطن الهلكة، فيجتنبها بقدر الإمكان؛ فينظرها ما فعل الله بأهل المخالفة والمعاصي، فيهرب منها بقدر إمكانه، وينظر ما فعل بأهل طاعته وطاعة رسوله من النصر والعز في الدارين، فيبادر إليها فوق ما يطيق، ويعظم الرسل، ومن كان على قدمهم ممن حمل الأمانة بعدهم، ويشد يده على صحبتهم وخدمتهم؛ فهذا يسعد سعادة الدارين. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {والمؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ} أي: أصدقاء {بعضٍ}، هذا في مقابلة قوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}، وحض المؤمنين بالوصف بالولاية، {يأمرون بالمعروف وينهَونَ عن المنكر}؛ ضد ما فعله المنافقون، {ويُقيمون الصلاة وَيُؤتون الزكاة}؛ ضد قوله: {وَيَقْبِضُون أَيْدِيَهُمْ}، {ويُطيعون الله ورسوله} في سائر الأمور، ضد قوله: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}، {أولئك سيرحمهم الله} لا محالة؛ لأن السين مؤكدة للوقوع، {إن الله عزيزٌ}؛ غالب على كل شيء، ولا يمتنع عليه ما يريده، {حكيم} يضع الأشياء مواضعها.
ثم ذكر ما أعد لهم فقال: {وَعَدَ اللَّهُ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ومساكن طيبةً} أي: تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش. وفي الحديث: «إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر». وفي حديث آخر: «إنَّ في الجنَّة غُرفاً ظَاهِرُها من بَاطنِها مِنْ ظَاهِرهَا، أَعَدَّها اللَّهُ لِمَنْ أَطعَمَ الطَّعَام، وأَلانَ الكَلامَ، وبذَل السَّلام، وتَابَعَ الصِّيام، وصلَّى باللَّيلِ والناس نِيامٌ».
وذلك {في جنات عَدنْ}، أي: إقامةٍ وخلود. وعنه عليه الصلاة والسلام: جنات عدن: دار الله، التي لم ترها عين، ولا تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاث: النبيون، والصديقون، والشهداء. يقول الله تعالى: {طوبى لمن دخلك} قاله البيضاوي. ثم قال: ومرجع العطف فيها أي: في قوله: {ومساكن طيبة} يحتمل أن يكون لتعدد الموعود لكل واحد له، أي: فكل مؤمن ومؤمنة له جنات ومساكن، أو للجميع؛ على سبيل التوزيع، أي: فالجنات والمساكن معدة للجميع، ثم يقسمونها على حسب سعيهم في الدنيا، أو إلى تغاير وصفه أي: الموعود فكأنه وصفه أولاً بأنه جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها؛ لتميل إليه طبائعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى عن شوائب الكدرات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير.
ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: {ورضوانٌ من الله أكبرُ}؛ لأنه المَبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تعالى يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: هَلْ رَضيتُم؟ فَيَقُولونَ: وَما لَنَا لا نَرضى وَقَد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحداً مَنْ خَلقِكَ، فيَقُول: أَنَا أُعطِيكُم أفضل مَنْ ذَلِكَ. قالوا: أَيّ شَيء أَفضَلُ مَنْ ذلِكَ؟ قال: أُحِلَ عَلَيكُم رِضوَاني فَلاَ أسخَطُ عَلَيكُم أَبَدا» {ذلك} أي: الرضوان، أو جميع ما تقدم، {هو الفوزُ العظيم} الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها. اهـ.
الإشارة: قد أعد الله لأهل الإيمان الحقيقي؛ الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في مرضاته، جنات المعارف، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم والحِكَم، ومساكن طيبة، وهي: عكوف أرواحهم في الحضرة، متلذذين بحلاوة الفكرة والنظرة، في محل المشاهدة والمكالمة، والمساررة والمناجاة، ورضوان من الله، الذي هو نعيم الأرواح، أكبر من كل شيء؛ لأن نعيم الأرواح أجل وأعظم من نعيم الأشباح، حتى أن المقربين ليضحكون على أهل اليمين، حين يرونهم يلعبون مع الولدان والحور، كما ذكر الغزالي. وأما المقربون فيشاركونهم في ذلك، ويزيدون عليهم بلذة الشهود.
قال القشيري، عند قوله تعالى: {إنَّ أصحبَ الجنَّة اليومَ في شُغُلٍ فَكِهُون} [يس: 55]: إنه لا تنافي بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود أمرهم، كما أنهم اليومَ مستلذون بمعرفته بأي حالةٍ هم فيها، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم بحُظُوظِهِم في معارفهم. انتهى لفظه، وهو حسن. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {يا أيها النبيُّ جاهد الكفار} بالسيف، {والمنافقين} باللسان؛ بإلزام الحجة وبإقامة الحدود؛ ما لم يظهر عليهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر عليهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق، فيقتل على المشهور. {واغْلظْ عليهم} بالقول والفعل، إن استوجبوا ذلك، ولا تراقبهم، {ومأواهم جهنُم وبئس المصير} أي: المرجع، مصيرهم.
{يحلفون بالله ما قالوا}، رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المختلفين فقال الجُلاس بن سُويد: لئن كان ما يقول محمد في إخواننا حقاً لنحن شرٌّ من الحمير، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاستحضره، فحلف بالله ما قال، فنزلت، فتاب الجُلاس، وحسُنَت توبته.
قال تعالى: {ولقد قالوا كلمة الكفر}، يعني: ما تقدم من قول الجُلاس، أو قول ابن أُبيّ: سَمِّن كَلبَك يأكُلك، أو: {لئن رجعنا إلى المدينة}... الآية. {كفروا بعد إسلامهم}؛ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام، ولم يقل بعد إيمانهم، لأنهم يقولون بألسنتهم: آمنا، ولم يدخل في قلوبهم، {وهَمُّوا بما لم ينالوا} من قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو: أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مَرْجِعِه من تبوك، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي، إذا وصل إلى العَقَبة بالليل، فأخذ عمَّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحُذيفة خلفها يسوقها، فبينما هم كذلك إذ سمع حُذَيفة تقعقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فقال: إليكم إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا. أو: هموا بإخراجه من المدينة، أو إخراج المؤمنين، أو هموا بأن يُتَوجُوا عبد الله بن أُبي، وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينالوا شياً من ذلك.
{وما نَقَمُوا} أي: وما عابوا وكرهوا {إلا أن أغناهم الله ورسولُهُ من فضله} الذين حقهم أن يشكروا عليه، وذلك أن اكثر أهل المدينة كانوا محاويج، في ضَنَكٍ من العيش، فلما قَدِمَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، وقُتِلأ للجُلاَس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينه اثنى عشر ألفاً، فأُعطيت له، فاستغنى.
{فأن يتوبُوا يَكُ خيراً لهم}، وهذا حمل الجلاس على التوبة، والضمير يعود على الرجوع المفهوم من التوبة، {وإن يتولوا} عنك؛ بالإصرار على النفاق، {يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة}؛ بالقتل والنار، {وما لهم في الأرض من وليِّ ولا نصير} ينجيهم من العذاب.
الإشارة: كفار الخصوصية على القسمين: قسم أظهروا الإنكار على أهلها، وقسم أبطنوه وأظهروا الوفاق، ففيهم شبه بأهل النفاق، فينبغي الإعراض عن الجميع، والاشتغال بالله عنهم، وهو جهادهم والإغلاظ عليهم، فعداوة العدو حقاً هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقاً. وقد تَصْدر عنهم في جانب أهل الخصوصية مقالات ثم ينكرونها، وقد يَهمُّوا بما لم ينالوا من إذايتهم وقتلهم، لو قدروا. والله يتولى الصالحين.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15